فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

سورة البلد:
{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1)}
{وأنت حل}: جملة حالية تفيد تعظيم المقسم به، أي فأنت مقيم به، وهذا هو الظاهر.
وقال ابن عباس وجماعة: معناه: وأنت حلال بهذا البلد، يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة.
وقال ابن عطية: وهذا يتركب على قول من قال لا نافية، أي إن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال، إحلال حرمته.
وقال شرحبيل بن سعد: يعني {وأنت حل بهذا البلد}، جعلوك حلالاً مستحل الأذى والقتل والإخراج، وهذا القول بدأ به الزمخشري، وقال: وفيه بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة، وتعجب من حالهم في عداوته، أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يحلو من مقاساة الشدائد، واعترض بأن وعده فتح مكة تتميماً للتسلية والتنفيس عنه، فقال: وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريده من القتل والأسر.
ثم قال الزمخشري: بعد كلام طويل: فإن قلت: أين نظير قوله: {وأنت حل} في معنى الاستقبال؟
قلت: قوله عز وجل: {إنك ميت وإنهم ميتون} واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام والحبا: وأنت مكرم محبو، وهو في كلام الله أوسع، لأن الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة، وكفاك دليلاً قاطعاً على أنه للاستقبال، وأن تفسيره بالحال محال.
إن السورة بالاتفاق مكية، وأين الهجرة من وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟ انتهى.
وحمله على أن الجملة اعتراضية لا يتعين، وقد ذكرنا أولاً أنها جملة حالية، وبينا حسن موقعها، وهي حال مقارنة، لا مقدرة ولا محكية؛ فليست من الإخبار بالمستقبل.
وأما سؤاله والجواب، فهذا لا يسأله من له أدنى تعلق بالنحو، لأن الأخبار قد تكون بالمستقبلات، وإن اسم الفاعل وما يجري مجراه حالة إسناده أو الوصف به لا يتعين حمله على الحال، بل يكون للماضي تارة، وللحال أخرى، وللمستقبل أخرى؛ وهذا من مبادئ علم النحو.
وأما قوله: وكفاك دليلاً قاطعاً الخ، فليس بشيء، لأنا لم نحمل {وأنت حل} على أنه يحل لك ما تصنع في مكة من الأسر والقتل في وقت نزولها بمكة فتنافيا، بل حملناه على أنه مقيم بها خاصة، وهو وقت النزول كان مقيماً بها ضرورة.
وأيضاً فما حكاه من الاتفاق على أنها نزلت بمكة فليس بصحيح، وقد حكى الخلاف فيها عن قول ابن عطية، ولا يدل قوله: {وأنت حل بهذا البلد} على ما ذكروه من أن المعنى يستحل إذ ذاك، ولا على أنك تستحل فيه أشياء، بل الظاهر ما ذكرناه أولاً من أنه تعالى أقسم بها لما جمعت من الشرفين، شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقامته فيها، فصارت أهلاً لأن يقسم بها.
والظاهر أن قوله: {ووالد وما ولد}، لا يراد به معين، بل ينطلق على كل والد.
وقال ابن عباس ذلك، قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان.
وقال مجاهد: آدم وجميع ولده.
وقيل: والصالحين من ذريته.
وقيل: نوح وذريته.
وقال أبو عمران الحوفي: إبراهيم عليه السلام وجميع ولده.
وقيل: ووالد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ولد إبراهيم عليه السلام.
وقال الطبري والماوردي: يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره، وما ولد أمته، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ولقراءة عبد الله: {وأزواجه أمهاتهم} وهو أب لهم، فأقسم تعالى به وبأمته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بوالد وما ولد؟
قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ولده.
أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه، وحرم أبيه إبراهيم، ومنشأ أبيه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وبمن ولده وبه.
فإن قلت: لم نكر؟
قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب.
فإن قلت: هلا قيل: ومن ولد؟
قلت: فيه ما في قوله: {والله أعلم بما وضعت} أي بأي شيء وضعت، يعني موضوعاً عجيب الشأن. انتهى.
وقال الفراء: وصلح ما للناس، كقوله: {ما طاب لكم} {وما خلق الذكر والأنثى} وهو الخالق للذكر والأنثى. انتهى.
وقال ابن عباس وعكرمة وابن جبير: المراد بالوالد الذي يولد له، وبما ولد العاقر الذي لا يولد له.
جعلوا ما نافية، فتحتاج إلى تقدير موصول يصح به هذا المعنى، كأنه قال: ووالد والذي ما ولد، وإضمار الموصول لا يجوز عند البصريين.
{لقد خلقنا الإنسان في كبد}: هذه الجملة المقسم عليها.
والجمهور: على أن الإنسان اسم جنس، و{في كبد}: يكابد مشاق الدنيا والآخرة، ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة فتزول عنه المشقات؛ وإما في نار فتتضاعف مشقاته وشدائده.
وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد: {في كبد} معناه: منتصب القامة واقفاً، ولم يخلق منكباً على وجهه، وهذا امتنان عليه.
وقال ابن كيسان: منتصباً رأسه في بطن أمه، فإذا أذن له بالخروج، قلب رأسه إلى قدمي أمه.
وعن ابن عمر: يكابد الشكر على السرّاء، ويكابد الصبر على الضراء.
وقال ابن زيد: {الإنسان}: آدم، {في كبد}: في السماء، سماها كبداً، وهذه الأقوال ضعيفة، والأول هو الظاهر.
والظاهر أن الضمير في {أيحسب} عائد على {الإنسان}، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده.
يقول على سبيل الفخر: {أهلكت مالاً لبدا}: أي في المكارم وما يحصل به الثناء، أيحسب أن أعماله تخفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء؟ بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر منه من عمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء.
وقيل: الضمير في {أيحسب} لبعض صناديد قريش.
وقيل: هو أبو الأسد أسيد بن كلدة، كان يبسط له الأديم العكاظي، فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلا قطعاً، ويبقى موضع قدميه.
وقيل: الوليد بن المغيرة.
وقيل: الحرث بن عامر بن نوفل، وكان إذا أذنب استفتى النبي صلى الله عليه وسلم، فيأمره بالكفارة، فقال: لقد أهلكت مالاً لبدا في الكفارات والتبعات منذ تبعت محمداً صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الجمهور: {لبدا}، بضم اللام وفتح الباء؛ وأبو جعفر: بشدّ الباء؛ وعنه وعن زيد بن علي: {لبدا} بسكون الباء، ومجاهد وابن أبي الزناد: بضمهما.
ثم عدّد تعالى على الإنسان نعمه فقال: {ألم نجعل له عينين} يبصر بهما، {ولساناً} يفصح عما في باطنه، {وشفتين} يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك.
{وهديناه النجدين}، قال ابن مسعود وابن عباس والجمهور: طريق الخير والشر.
وقال ابن عباس أيضاً، وعليّ وابن المسيب والضحاك: الثديين، لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه.
{فلا اقتحم العقبة}: أي لم يشكر تلك النعم السابقة، والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال، تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منه، وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها.
واقتحمها: دخلها بسرعة وضغط وشدّة، والقحمة: الشدّة والسنة الشديدة.
ويقال: قحم في الأمر قحوماً: رمى نفسه فيه من غير روية.
والظاهر أن لا للنفي، وهو قول أبي عبيدة والفرّاء والزجاج، كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل، فما فعل خيراً، أي فلم يقتحم.
قال الفرّاء والزجاج: ذكر لا مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي حتى تعيد، كقوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} وإنما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: {ثم كان من الذين آمنوا}، قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
وقيل: هو جار مجرى الدعاء، كقوله: لا نجا ولا سلم، دعاء عليه أن لا يفعل خيراً.
وقيل: هو تحضيض بألا، ولا نعرف أن لا وحدها تكون للتحضيض، وليس معها الهمزة.
وقيل: العقبة: جهنم، لا ينجي منها إلا هذه الأعمال، قاله الحسن.
وقال ابن عباس ومجاهد وكعب: جبل في جهنم.
وقال الزمخشري، بعد أن تنحل مقالة الفرّاء والزجاج: هي بمعنى لا متكررة في المعنى، لأن معنى {فلا اقتحم العقبة}: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً.
ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟ انتهى، ولا يتم له هذا إلا على قراءة من قرأ {فك} فعلاً ماضياً.
وقرأ ابن كثير والنحويان: {فك} فعلاً ماضياً، {رقبة} نصب، {أو أطعم} فعلاً ماضياً؛ وباقي السبعة: {فك} مرفوعاً، {رقبة} مجروراً، و{إطعام} مصدر منون معطوف على {فك}.
وقرأ على وأبو رجاء كقراءة ابن كثير، إلا أنهما قرآ: {ذا مسغبة} بالألف.
وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضاً: {أو إطعام في يوم ذا} بالألف، ونصب {ذا} على المفعول، أي إنساناً ذا مسغبة، و{يتيماً} بدل منه أو صفة.
وقرأ بعض التابعين: {فك رقبة} بالإضافة، {أو أطعم} فعلاً ماضياً.
ومن قرأ {فك بالرفع}، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة.
ومن قرأ فعلاً ماضياً، فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء {فك} بدلاً من {اقتحم}، قاله ابن عطية.
وفك الرقبة: تخليصها من الأسر والرق.
{ذا مقربة}: ليجتمع صدقة وصلة، وأو هنا للتنويع، ووصف {يوم} بـ: {ذي مسغبة} على الاتساع.
{ذا متربة}، قال: هم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب، لا بيوت لهم.
وقال ابن عباس: هو الذي يخرج من بيته، ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب.
{ثم كان من الذين آمنوا}: هذا معطوف على قوله: {فلا اقتحم}؛ ودخلت ثم لتراخي الإيمان والفضيلة، لا للتراخي في الزمان، لأنه لابد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان، إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع، أو يكون المعنى: ثم كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان، إذ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطاعات، أو يكون التراخي في الذكر كأنه قيل: ثم اذكر أنه كان من الذين آمنوا.
{وتواصوا بالصبر}: أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي، {وتواصوا بالمرحمة}: أي بالتعاطف والتراحم، أو بما يؤدي إلى رحمة الله.
والميمنة والمشأمة تقدّم القول فيهما في الواقعة.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص: {مؤصدة} بالهمز هنا وفي الهمزة، فيظهر أنه من آصدت قيل: ويجوز أن يكون من أوصدت، وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً.
وقرأ باقي السبعة بغير همز، فيظهر أنه من أوصدت.
وقيل: يجوز أن يكون من آصدت، وسهل الهمزة، وقال الشاعر:
قوماً تعالج قملاً أبناءهم ** وسلاسلاً حلقاً وباباً مؤصداً

اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

{لَا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد (1)}
التفسير:
إنه سبحانه قرر في هذه السورة وفي أكثر ما يتلوها من السور مراتب النفوس الإنسانية وأحوالها في السعادة وضدّها، فأكد ذلك بالإقسام بالبلد الحرام وهو مكة التي جعلها الله تعالى منشأ كل بركة وخير. وقوله: {وأنت حلّ بهذا البلد} اعتراض بين القسمين كأنه تعالى عظم مكة من جهة أنه صلى الله عليه وسلم حلّ بها وأقام فيها.
وقيل: الحل بمعنى الحلال كأنه سبحانه عجب من اعتقاد أهل مكة كيف يؤذون أشراف الخلق في موضع محرم. عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك.
وقال قتادة: أنت حلّ أي لست بأثيم وحلال لك أن تقتل بمكة من شئت كما في الحديث: «ولم تحل لي إلا ساعة من نهار» فأن كانت السورة مكية أو مدنية قبل الفتح فقوله: {حل} بمعنى الاستقبال نحو {إنك ميت وإنهم ميتون} [الزمر: 30] وكثيراً ما تبرز الأفعال المستقبلة في القرآن في صيغ الماضي لتحقق الوقوع، وإن كان حال الفتح أو بعده فظاهر. وعلى الأول يكون فيه إخبار بالغيب وقد يسر الله له فتح مكة كما وعد فيكون معجزاً. أما الوالد والولد فقيل: آدم وذرّيته لكرامتهم على الله {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] وقيل كل والد ومولود. وقد يخص الإقسام بالصالحين لأن غير الصالحين لا حرمة لهم {أولئك كالأنعام بل هم أضل} [الأعراف: 179] والأكثرون على أن الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والولد محمد صلى الله عليه وسلم كأنه أقسم ببلده ثم بوالده ثم به والتنكير للتعظيم. وإنما لم يقل ومن ولد للفائدة المذكورة في قوله: {والله أعلم بما وضعت} [آل عمران: 36] أي بشيء وضعته وهو مولود عجيب الشأن. والكبد المشقة والتعب كقوله: {إنك كادح إلى ربك كدحاً} [الانشقاق: 6] وأصله من كبد الرجل بالكسر كبداً بالفتح فهو كبد إذا وجعت كبده وانتفخت. ولا تخفى الشدائد الواردة على الإنسان من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ثم إلى زمان رضاعه ثم إلى بلوغه ثم ورود طوارق السراء وبوارق الضراء وعلائق التكاليف وعوائق التمدن والتعيش عليه إلى الموت.
ثم إلى البعث من المساءلة وظلمة القبر ووحشته، ثم إلى الاستقرار في الجنة والنار من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة والوقوف بين يدي الجبار، اللهم سهل علينا هذه الشدائد بفضلك يا كريم ووفقنا للعمل بما يستعقب الخلاص منها إلى النعيم المقيم.
وقيل: الكبد مرض القلب وفساد العقيدة والمراد به الذين علم الله من حالهم أنهم لا يؤمنون.
وقيل: الكبد هو الاستواء والاستقامة أي خلقناه منتصب القامة.
وقيل: الكبد الشدة والغلظ ثم اشتق منه اسم العضو لأنه دم غليظ. وقد يخص الإنسان على هذا التفسير بشخص واحد من جمح يكنى أبا الأشدين، كان يجعل تحت قدميه الأديم ثم يمدّ من تحت قدميه فيتمزق الأديم ولم تزل قدماه ويعضد هذا التفسير قوله: {أيحسب} يعني ذلك الإنسان الشديد. وعلى الأول معناه لن يقدر على بعثه ومجازاته أو على تغيير أحواله وأطواره {يقول أهلكت ما لا لبدا} أي كثيراً بعضه فوق بعض وهو جمع لبدة بالضم لما يلبد قاله الفراء.
وعن الزجاج أنه مفرد والبناء للمبالغة والكثرة. يقال: رجل حطم إذا كان كثير الحطم. ومن قرأ بالتشديد فهو جمع لابد يريده كثرة ما أنفقه في الجاهلية فوبخه على ذلك بقوله: {أيحسب أن لم يره أحد} يعنى أنه تعالى كان عالماً بقصده حين ينفق ما ينفق رياء وافتخاراً وحباً للانتساب إلى المكارم والمعالي أو معاداة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: أيظن أن الله لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وفي أي شيء أنفقه؟ وقال الكلبي: كان كاذباً ولم ينفق شيئاً فقال الله: أيزعم أن الله ما رأى ذلك منه ولو كان قد أنفق لعلم الله. ثم دل على كمال قدرته مع إشارة إلى الاستعداد الفطري بقوله: {ألم نجعل له عينين} يبصر بهما المصنوعات {ولساناً} يعبر به عما في ضميره {وشفتين} يستعين بهما على الإفصاح بالنطق {وهديناه النجدين} سبيلي الخير والشر كقوله: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً أو كفوراً} [الدهر: 3] هذا قول عامة المفسرين.
والنجد في اللغة المكان المرتفع جعل الدلائل لارتفاع شأنها وعلو مكانها كالطرق المرتفعة العالية التي لا تخفى على ذوي الأبصار.
وقال الحسن {يقول أهلكت ما لا لبدا} فمن الذي يحاسبني عليه؟ فقيل الذي قدر على أن خلق لك الأعضاء قادر على محاسبتك.
وعن ابن عباس وسعيد بن المسيب: هما الثديان لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه هدى الله الطفل الصغير حتى ارتضعهما، قال القفال: والتفسير هو الأول. ثم قرر وجه الاستدلال به فقال: إن من قدر على أن خلق من الماء المنتن قلباً عقولاً ولساناً فؤولاً فهو على إهلاك ما خلق أقدر، فام الحجة في الكفر بالله مع تظاهر نعمه؟ وما العلة في التعزز على الله وأوليائه بالمال وإنفاقه وهو المعطي والممكن من الانتفاع؟ ثم عرف عباده وجوه الإنفاق الفاضلة تعريضاً بأن ذلك الكافر لم يكن إنفاقه في وجه مرضيّ معتدّ به لابتناء قبول الطاعات على الإيمان الذي هو أصل الخيرات.
والاقتحام الدخول بشدّة ولهذا يستعمل في الأخطار والأهوال. والعقبة طريق الجبل؛ فعن ابن عمر: هي جبل زلال في جهنم.
وعن مجاهد والضحاك: هي الصراط يضرب على متن جهنم، وهو معنى قول الكلبي: عقبة بين الجنة والنار. وزيف الواحدي وغيره هاتين الروايتين بأنه من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا العقبة بهذا المعنى، وبأن تفسير الله سبحانه العقبة عيبه ينافيه.
وعن الحسن: عقب والله شديدة إن هذا مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان.
قال النحويون: قلما توجد لا الداخلة على الماضي إلا مكررة كقوله: {فلا صدّق ولا صلّى} [القيامة: 31] وتقول: لا خيبني ولا رزقني. والقرآن أفصح الكلام فهو أولى برعاية هذه القاعدة. والجواب أن القرآن حجة كافية ولو سلم فهي متكررة في المعنى.
قال الزجاج: ألا ترى أنه فسر {العقبة} بفك الرقبة والإطعام؟ فكأنه قيل: فلا فك رقبة ولا أطعم مسكيناً ولاسيما فيمن قرأ {فك} و{أطعم} على الإبدال من {اقتحم} وجعل ما بينهما اعتراضاً. ويجوز أن يراد فلا اقتحم العقبة ولا آمن يدل عليه قوله: {ثم كان من الذين آمنوا} ومن قرأ {فك} {أو إطعام} على المصدرين فالفاعل محذوف وهو من خواص المصدر لا يجوز حذف الفاعل من غيره والتقدير: فك فاك رقبة أو إطعام مطعم يتيماً. والمسغبة مصدر على (مفعلة) من سغب إذا جاع، وكذا المقربة من قرب في النسب. والمتربة من ترب إذا افتقر والتصق بالتراب فليس فوقه ما يستره ولا تحته ما يوطئه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «هو الذي مأواه المزابل». ووصف اليوم بـ: {ذي مسغبة} مجاز باعتبار صاحبه نحو (نهاره صائم). وفك الرقبة تخليصها من رق أو غيره. وفي الحديث: «إن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يدخلني الجنة. فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. فقال: أوليسا سواء؟ قال: لا إعتاقها أن تتفرد بعتقها وفكها تخليصها من قود أو غرم» وقد استدل أبو حنيفة من تقدم العتق على أنه أفضل من الصدقة.
وعند بعضهم بالعكس لأن في الصدقة تخليص النفس من الإشراف على الهلاك فإن قوام البدن بالغذاء، وفي الفك تخليصها من القيد في الأغلب. وأيضاً لعل الأمر في الأول أضيق. ولا شك إن إطعام التيم القريب أفضل من اليتيم الأجنبي. وقد يستدل للشافعي أن المسكين أحسن حالاً من الفقير وأنه قد يكون بحيث يملك شيئاً وإلا وقع قوله: {ذا متربة} تكراراً.
وقال بعض أهل التأويل: فك الرقبة أن يعين المرء نفسه على إقامة الوظائف الشرعية ليتخلص بها عن النار.
وعندي هو أن يفك رقبته عن الكونين ليلزم عنه زوال الحرص المستتبع لمواساة النفس على الطعام والإيثار. وفي قوله: {ثم كان} وجوه:
أحدها: أن هذا التراخي في الذكر لا في وجود فإن الإيمان مقدّم على جميع الخصال المعتدّ بها شرعأً كقوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه ** ثم قد ساد قبل ذلك جده

أي ثم إنه أذكر ساد أبوه.
وثانيها: التأويل بالعاقبة أي ثم كان في عاقبة أمره ممن يموت على الإيمان.
وثالثها:أن الآية نزلت فيمن أتى بهذه الخصال قبل إيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم آمن به بعد مبعثه. فعند بعضهم يثاب على تلك الطاعات يدل عليه ما روي أن حكيم بن حزام بعد ما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما قدّمت من الخير» ورابعها وهو أولى الوجوه عند أصحاب المعاني أن المراد تراخي الرتبة والفضيلة لأن ثواب الإيمان أكثر من ثواب العتق والصدقة. وقد يوجه البيت المذكور على هذا بأن المراد ثم ساد أبوه مع ذلك ثم ساد جده مع ما ذكر، ولا ريب أن مجموع الأمرين أو الأمور أشرف من أن ساد هو بنفسه فقط. وحين ذكر خصال الكمال عقبه بما يدل على التكميل قائلاً {تواصوا} أي أوصى بعضهم بعضاً {بالصبر} على التكاليف الشرعية وعلى البلايا والمحن التي قلما يخلوا المؤمن عنها {وتواصوا} {بالمرحمة} أي التعاطف والتراحم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا أخواناً متعاضدين» وفي الآية نكتة لطيفة وهي أنه سبحانه ذكر في باب الكمال أمرين: فك الرقبة والإطعام ثم الإيمان، وذكر في باب التكميل شيئين: التواصي بالصبر على الوظائف الدينية والتواصي بالتراحم، وكل من النوعين مشتمل على التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إلا أنه في الأول قدّم جانب الخلق، وفي الثاني قدم جانب الحق. ففي الأول إشارة إلى كامل رحمته ونهاية عنايته بالمخلوقات فإن رعاية مصالحهم عنده أهمّ، وفي الآخر رمز إلى حسن الأدب وتعليم للمكلفين أن يعرفوا ما هو الأقدم الأهمّ في نفس الأمر زادنا الله اطلاعاً على دقائق هذا الكتاب الكريم. قوله: {أصحاب الميمنة} و{أصحاب المشأمة} مر في أول الواقعة تفسيرهما.
قال أهل اللغة: أوصدت الباب وآصدته بالواو وبالهمز أي أطبقته وأغلقته.
قال مقاتل: فلا يخرج أحد منهما ولا يدخل روح فيها. والإيصاد بالحقيقة صفة أبواب النار أي مؤصدة أبوابها فهو من الإسناد المجازي.
وقيل: أراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب نعوذ بالله منها. اهـ.